الدكتور ماهر عزيز يكتب: المزيج الأمثل للتوليد الكهربي فى مصر (3)

لا إقصاء لأى مصدر طاقة 
ويسلم تخطيط الطاقة بمصر بالحاجة لدعم دخول الطاقات المتجددة الحديثة، بالترادف مع الدورة المركبة أو المحطات الأخرى لإنتاج القوى الكهربية.
كما يسلم بالتطبيق الآمن للقوى النووية وتأمينها بالتأسيس على أفضل التكنولوجيات المتاحة، وأفضل الممارسات التشغيلية الحاضرة.. لكن الأهم إطلاقاً هو ضرورة رعاية وتوطين الاستخدام السريع لتكنولوجيات الفحم النظيف حتى يتسنى مواجهة العجز الحتمى فى الموارد النفطية والغاز الطبيعى فى المستقبل القريب. ويتضافر مع مبدأ المزيج الأمثل لإنتاج القوى الكهربية ويسانده مبدأ الاحتفاظ بكافة خيارات الطاقة مفتوحة، ولا شك أن التعددية هى إحدى الوسائل الممكنة لاستبقاء جميع خيارات الطاقة مفتوحة، فلقد أظهرت تعددية الطاقة أنها وسيلة فعالة لتعظيم الأمن، وإبداع محافظ طاقة مرنة مقاومة للضغوط والصدمات. ويشكل التكامل الإقليمى لنظم الطاقة، والتجارة المعززة فى خدمات الطاقة، جزءاً حيوياً من التعددية كذلك، مما يدعم إمكانية الحصول على الفحم - على سبيل المثال- من السوق الدولية لتجارة الفحم.
ماذا، بعد، نعنيه باستبقاء جميع خيارات الطاقة مفتوحة لمصر؟
ببساطة شديدة.. لا مصدر طاقة يمكن إقصاؤه لأسباب سياسية جائرة:
•فالكتلة الأحيائية التقليدية مكلفة بمشارطات الموارد البشرية، وقد لا تكون مستدامة فى بعض المناطق، غير أن استخدام الكتلة الأحيائية يمكن أن يتطور تدريجياً تجاه نظم الكتلة الأحيائية المحدثة والمستدامة.
•والمتجددات الجديدة لتوليد القوى الكهربية هى بالدرجة الأولى الرياح والشمس والكتلة الأحيائية المحدثة. وتكلفتها جميعاً أخذة فى التناقص، ولكنها – على الأخص فى ظل الطبيعة المتقطعة والمترجحة للشمس والرياح- لن تكون تنافسية على نطاق عريض لسنوات عديدة قادمة. والمسألة تتعلق أساساً بالسياسات التى تضطلع بتحديد الحوافز التى يتم تكريسها لاستبقاء وتطوير أسواقها اللائقة الخاصة، غالباً بالتضافر مع استخدام الفحم النظيف والقوى النووية.
•ويتواصل الفحم على المستوى العالمى بوصفه مصدراً رئيسياً للطاقة عموماً، والطاقة الكهربية على وجه الخصوص، على مدى هذا القرن حتى نهايته على أقل تقدير، طالما توافرت أجهزة الحماية البيئية وتكنولوجيات الفحم النظيف؛ فاقتصادياته فى إنتاج القوى الكهربية، وتنوع إمداداته واتساعها، وكذا وفرته وغزارته فى العديد من الدول النامية المهمة (كالصين، والهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وغيرها الكثير) هى بعض أهم مكامن قيمته. وتعتبر تكنولوجيات الفحم الأنظف آخذة الآن فى الانتشار بما يعزز إمكانية نشر استخدام الكهرباء المولدة من الفحم بمصر.

أهمية الطاقة النووية

•والطاقة النووية ذات أهمية أساسية لأنها الإمداد الوحيد بالطاقة الحائز بالفعل لمصدر هائل ومنتشر أو متنوع على نحو حسن (وإمكاناته غير محدودة كمورد للطاقة إذا استخدمت المفاعلات الولود)؛ وهو أشبه ما يكون بالمورد الوطنى، ولا يبعث غازات دفيئة، واقتصادياته إما مواتية ومشجعة أو على أقل تقدير ذات أفضلية منحسرة نوعاً. وفى الواقع إذا ما أصبح التهديد بالتغير المناخى حقيقة لا مراء، فإن "النووية" هى تكنولوجيا القوى الكهربية التى بمستطاعها أن تعوض بعض نضوب النفط والغاز فى أحمال الأساس. وبينما هى لا تواجه مشكلة فيما يتعلق بالقبول العام فى مصر، فإن التطورات الراهنة فى الأمان، والتخلص من النفايات، والاستقلال التنظيمى تقلل جميعها معاً أية تخوفات.
•والغاز الطبيعى صار مرحلياً هو وقود الخيار المتنامى اليوم حتى فى الدول النامية الضخمة ذات الكثافة السكانية العالية، بينما المصادر المحدودة من الغاز آخذة فى التناهى السريع، وليست سوى دول قليلة للغاية هى التى تضع تصوراً لمحفظة طاقة دون مشاركة معتبرة من الغاز.
بيد أن الغاز الطبيعى فى مصر - كما أكدنا فى مواضع عدة - معرض للنضوب فى مدى حوالى العشرين عاماً القادمة بالاستهلاكات الحالية تراكمياً، وهو ما يجعلنا نفكر فى البدائل عاجلاً منذ اللحظة الراهنة، ويبدو أن الفحم والنووية هما خيارا البديل الأوفر حظاً فى الديمومة فى مدى المائة عام القادمة.
• وسيظل النفط مبقياً على دوره فى قطاعى البتروكيماويات والنقل، وكذا فى الاستخدامات الكهربية النائية أو الذروية، على مدى العقدين التاليين، ولذا لايجب التعويل عليه البتَّة فى إنتاج الكهرباء، بل يتعين أن يخرج تماماً من مجال التوليد الكهربى. وبالنظر إلى مزاياه الظاهرة فهنالك فرصة ضئيلة لانحدار الطلب على النفط، والمسألة الوحيدة التى تثار هنا قد تتلبس بإعادة ترتيب جسيمة لسياسات النقل كى يتسنى خفض استخدام السيارات فى المدن و/أو الشاحنات على الطرق، رغم أنه على المدى المتوسط يُتَوَقَّع بزوغ تكنولوجيات نقل جديدة على المقياس العالمى، كالسيارات الكهربية، وخلايا الوقود، والوقود الأحيائى.
• وتتوافر المصادر غير التقليدية للنفط كالطفلة البترولية أو الصخر الزيتى بكميات ضخمة فى مصر، حيث يبلغ التقدير المبدئى لاحتياطيها فى مناجم الفوسفات قطاع القصير بالبحر الأحمر حوالى 15 بليون طن، أى ما يكفى لتوليد طاقة كهربية مكافئة لإجمالى الطاقة الكهربية المستهلكة فى مصر عام 1990 (حوالى 36 مليار كيلووات ساعة) لمدة 600 سنة قادمة؛ وهذه المصادر غير التقليدية من الوقود الأحفورى تمثل مخزوناً استراتيجياً يعزز مستدامية الطاقة فى مصر على المدى البعيد، حيث تكون اقتصاديات الاستخراج والاستخدام قد تحسنت إلى مستويات غير منظورة.
• ويتكامل مع ذلك إمكان التبادل الاعتمادى الجزئى للطاقة الكهربية من مصادر مائية بالقارة الأفريقية، وأيضاً دول الجوار العربى (خاصة بعد الربط الكهربى المصرى السعودى) كأحد الحلول المطروحة على المدى البعيد مع امتداد شبكات الربط الكهربى الإقليمى والعابر للقارات.
والحق أنه لا يمكن النظر إلى احتياجات قطاع الكهرباء من الوقود الأحفورى، على الأخص الغاز الطبيعى، فى إطار السياسة الراهنة التى تستهدف الاستمرار فى استهلاك نسبة عالية من الغاز الطبيعى فى توليد الكهرباء، إلا فى سياق الاحتياج الشامل لقطاعات الاقتصاد كافة من الوقود الأحفورى.
ففى التقديرات الأولية، وفقاً لمعدلات النمو الاقتصادى المفترضة للسيناريوهات الثلاثة: المعتاد (على النحو السائد)، والعالى (لمعدل نمو أكبر)، والمنخفض (الذى يستهدف تعظيم الكفاءة)، وإذا أضفنا أن مصر ستحتاج لتغطية العجز فى موارد المياه إلى استهلاك طاقة أولية تقدر بحوالى 30 مليون طن مكافئ نفط من الغاز الطبيعى عام 2030 لإعذاب ماء البحر، ترتفع إلى حوالى 44 مليون طن مكافئ نفط عام 2050، وذلك للوفاء بعجز فى الاحتياجات الملحة للمياه يقدر بحوالى 19.6 مليار متر مكعب عام 2030، وحوالى 50 مليار متر مكعب عام 2052، أى ما يعادل إيراد نهر نيل آخر تحتاجه مصر إلى جانب إيراد النهر الحالى فى ذلك العام، فإن المخزون المقدر كله من الغاز الطبيعى سينفد تماماً تقريباً مع حلول عام 2035.
ذلك أنه إذا كانت الطاقة المطلوبة فقط لإعذاب المياه عام 2030 تقدر بحوالى 30 مليون طن معادل نفط فإن الاحتياج للمياه الذى بدأ بعجز مقداره حوالى 7.4 مليار متر مكعب عام 2017، يكافئ بمشارطات استخدام الغاز الطبيعى تراكمياً حتى عام 2030 ما يزيد على 58 تريليون قدم مكعب غاز طبيعى فى العام ذاته. فإذا ما أضفنا جميع الاستخدامات الأخرى للغاز الطبيعى بما فيها توليد الكهرباء يتضح جلياً الحجم الهائل المطلوب من الغاز الطبيعى لمقابلة المتطلبات كافة.